سورة الزمر - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


{ثُمَّ إِنَّكُمْ} أي إنك وإياهم فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب {يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا واجتهدت في الدعوة، فلجّوا في العناد ويعتذرون بما لا طائل تحته، تقول الأتباع: أطعنا ساداتنا وكبراءنا، وتقول السادات: أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون. قال الصحابة رضى الله عنهم أجمعين: ما خصومتنا ونحن إخوان! فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا. عن أبي العالية: نزلت في أهل القبلة وذلك في الدماء والمظالم التي بينهم. والوجه هو الأوّل ألا ترى إلى قوله {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} وقوله {والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} وما هو إلا بيان وتفسير للذين تكون بينهم الخصومة. {كَذَبَ علَى الله} افترى عليه بإضافة الولد والشريك إليه {وَكَذَّبَ بالصدق} بالأمر الذي هو الصدق بعينه وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {إِذْ جَآءَهُ} فاجأه بالتكذيب لما سمع به من غير وقفة لإعمال روية أو اهتمام بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين} أي لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق. واللام في {للكافرين} إشارة إليهم {والذى جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} هو رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق وآمن به وأراد به إياه ومن تبعه كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون: 49] فلذا قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون} وقال الزجاج: رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال: والذي جاء بالصدق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبو بكر الصديق رضي الله عنه. ورُوي أن الذي جاء بالصدق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به المؤمنون، والكل صحيح كذا قاله. قالوا: والوجه في العربية أن يكون (جاء) و(صدق) لفاعل واحد لأن التغاير يستدعي إضمار الذي، وذا غير جائز، أو إضمار الفاعل من غير تقدم الذكر وذا بعيد.
{لَهُم مَّا يَشَآءَونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إضافة أسوأ وأحسن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل كقولك: الأشج أعدل بني مروان.
{أَلَيْسَ الله بِكَافٍ} أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي فأفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها {عَبْدَهُ} أي محمداً صلى الله عليه وسلم. {عباده} حمزة وعلي أي الأنبياء والمؤمنين وهو مثل {إِنَّا كفيناك المستهزءين} [الحجر: 95] {وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} أي بالأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه، وذلك أن قريشاً قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا وإنا نخشى عليك مضرتها لعيبك إياها {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ} بغالب منيع {ذِى انتقام} ينتقم من أعدائه، وفيه وعيد لقريش ووعد للمؤمنين بأنه ينتقم لهم منهم وينصرهم عليهم.
ثم أعلم بأنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض بقوله {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله} بفتح الياء سوى حمزة {بِضُرٍّ} مرض أو فقر أو غير ذلك {هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرِّهِ} دافعات شدته عني {أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ} صحة أو غنى أو نحوهما {هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ} {كاشفات ضُرّهِ}، و{ممسكات رَحْمَتِهِ} بالتنوين على الأصل: بصري، وفرض المسئلة في نفسه دونهم لأنهم خوفوه معرة الأوثان وتخبيلها، فأمر بأن يقررهم أولاً بأن خالق العالم هو الله وحده ثم يقول لهم بعد التقرير: فإن أرادني خالق العالم الذي أقررتم به بضر أو برحمة هل يقدرون على خلاف ذلك؟ فلما أفحمهم قال الله تعالى: {قُلْ حَسْبِىَ الله} كافياً لمعرة أوثانكم {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} يُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فسكتوا فنزل {قُلْ حَسْبِىَ الله}، وإنما قال: {كاشفات} و{ممسكات} على التأنيث بعد قوله {وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} لأنهن إناث وهن اللات والعزى ومناة، وفيه تهكم بهم وبمعبوديهم.
{قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها، والمكانة بمعنى المكان فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا وحيث للزمان وهما للمكان {إِنِّى عامل} أي على مكانتي وحذف للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد والإيذان بأن حالته تزداد كل يوم قوّة لأن الله تعالى ناصره ومعينه، ألا ترى إلى قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} كيف توعدهم بكونه منصوراً عليهم غالباً عليهم في الدنيا والآخرة، لأنهم إذا أتاهم الخزي والعذاب فذاك عزه وغلبته من حيث إن الغلبة تتم له بعز عزيز من أوليائه وبذل ذليل من أعدائه، و{يُخْزِيهِ} صفة للعذاب ك {مُّقِيمٌ} أي عذاب مخزلة وهو يوم بدر، وعذاب دائم وهو عذاب النار. {مكاناتكم} أبو بكر وحماد.
{إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} القرآن {لِلنَّاسِ} لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه ليبشروا وينذروا فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية {بالحق فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ} فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} ومن اختار الضلالة فقد ضرها {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} بحفيظ.
ثم أخبر بأنه الحفيظ القدير عليهم بقوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} الأنفس الجمل كما هي، وتوفيها إماتتها وهو أن يسلب ما هي به حية حساسة دراكة {والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها أي يتوفاها حين تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى حيث لا يميزون ولا يتصرفون كما أن الموتى كذلك، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل} [الأنعام: 60] {فَيُمْسِكُ} الأنفس {التى قضى} {قُضِىَ} حمزة وعلي. {عَلَيْهَا الموت} الحقيقي أي لا يردها في وقتها حية {وَيُرْسِلُ الأخرى} النائمة {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى وقت ضربه لموتها. وقيل: يتوفى الأنفس أي يستوفيها ويقبضها وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في مقامها وهي أنفس التمييز. قالوا: فالتي تتوفى في المنام هي نفس التمييز لا نفس الحياة لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفسَ والنائم يتنفس، ولكل إنسان نفسان: إحداهما نفس الحياة وهي التي تفارق عند الموت، والأخرى نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام. ورُوي عن ابن عباس رضى الله عنهما: في ابن آدم نفس وروح بينهما شعاع مثل شعاع الشمس، فالنفس هي التي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. وعن علي رضي الله عنه قال: تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعها في الجسد فذلك يرى الرؤيا، فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة، وعنه ما رأت عين النائم في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت بعد الإرسال فيلقنها الشيطان فهي كاذبة.
وعن سعيد بن جبير: أن أرواح الأحياء وأرواح الأموات تلتقي في المنام فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجسادها إلى انقضاء حياتها. ورُوي أن أرواح المؤمنين تعرج عند النوم في السماء فمن كان منهم طاهراً أذن في السجود، ومن لم يكن منهم طاهراً لم يؤذن له فيه {إِنَّ فِى ذَلِكَ} إن في توفي الأنفس ميتة ونائمة وإمساكها وإرسالها إلى أجل {لآيَاتٍ} على قدرة الله وعلمه {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون {أَمِ اتخذوا} بل اتخذ قريش والهمزة للإنكار {مِن دُونِ الله} من دون إذنه {شُفَعَآءَ} حين قالوا {هؤلاءآء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18] ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه {قُلْ أَوَ لَّوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ} معناه أيشفعون ولو كانوا لا يملكون شيئاً قط ولا عقل لهم؟ {قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً} أي هو مالكها فلا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه وانتصب {جَمِيعاً} على الحال {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض} تقرير لقوله {لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً} لأنه إذا كان له الملك كله والشفاعة من الملك كان مالكاً لها. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} متصل بما يليه معناه له ملك السماوات والأرض واليوم ثم إليه ترجعون يوم القيامة فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له فله ملك الدنيا والآخرة.


{وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ} مدار المعنى على قوله {وَحْدَهُ} أي إذا أفرد الله بالذكر ولم تذكر معه آلهتهم {اشمأزت} أي نفرت وانقبضت {قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ} يعني آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكر {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} لافتتانهم بها، وإذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له نفروا لأن فيه نفياً لآلهتهم، ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما غاية في بابه، فالاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل، والاشمئزاز أن يمتلئ غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه، والعامل في {إِذَا ذُكِرَ} هو العامل في (إذا) المفاجأة. تقديره: وقت ذكر الذين من دونه فاجئوا وقت الاستبشار {قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض} أي يا فاطر، وليس بوصف كما يقوله المبرد والفراء {عالم الغيب والشهادة} السر والعلانية {أَنتَ تَحْكُمُ} تقضي {بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من الهدى والضلالة، وقيل: هذه محاكمة من النبي للمشركين إلى الله. وعن ابن المسيب: لا أعرف آية قرئت فدعي عندها إلا أجيب سواها. وعن الربيع بن خيثم وكان قليل الكلام أنه أخبر بقتل الحسين رضي الله عنه وقالوا: الآن يتكلم فما زاد أن قال: آه أوقد فعلوا وقرأ هذه الآية. ورُوي أنه قال على أثره: قتل من كان صلى الله عليه وسلم يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه.
{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} الهاء تعود إلى (ما) {لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ العذاب} شدته {يَوْمَ القيامة وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قط في حسبانهم ولا يحدثون به نفوسهم. وقيل: عملوا أعمالاً حسبوها حسنات فإذا هي سيئات، وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء. وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له فقال: أخشى آية من كتاب الله وتلاها، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} أي سيئات أعمالهم التي كسبوها أو سيئات كسبهم حين تعرض صحائف أعمالهم وكانت خافية عليهم أو عقاب ذلك {وَحَاقَ بِهِم} ونزل بهم وأحاط {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} جزاء هزئهم.
{فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خولناه} أي أعطيناه تفضلاً. يقال: خولني إذا أعطاك على غير جزاء {نِعْمَةً مِّنَّا} ولا تقف عليه لأن جواب (إذا) {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} مني أني سأعطاه لما فيّ من فضل واستحقاق، أو على علم مني بوجوه الكسب كما قال قارون: {على عِلْمٍ عِندِى} [القصص: 78] وإنما ذكر الضمير في {أُوتِيتُهُ} وهو للنعمة نظراً إلى المعنى لأن قوله {نِعْمَةً مّنَّا} شيئاً من النعمة وقسماً منها. وقيل: (ما) في (إنما) موصولة لا كافة فيرجع الضمير إليها أي إن الذي أوتيته على علم {بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ} إنكار له كأنه قال: ما خولناك من النعمة لما تقول بل هي فتنة أي ابتلاء وامتحان لك أتشكر أم تكفر. ولما كان الخبر مؤنثاً أعني فتنة ساغ تأنيث المبتدأ لأجله، وقريء بل هو فتنة على وفق {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنها فتنة، والسبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أول السورة بالواو، أن هذه وقعت مسببة عن قوله {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت} على معنى أنهم يشمئزون من ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز بذكره دون من استبشر بذكره وما بينهما من الآي اعتراض.
فإن قلت: حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه. قلت: ما في الاعتراض من دعاء الرسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بأمر من الله وقوله {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} ثم ما عقبه من الوعيد العظيم، تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم كأنه قيل: يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترئون عليك مثل هذه الجرأة إلا أنت، وقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} متناول هم ولكل ظالم إن جعل عاماً، أو إياهم خاصة إن عنيتهم به كأنه قيل: ولو أن لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به حين حكم عليهم بسوء العذاب، وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو نحو (قام زيد وقعد عمرو)، وبيان وقوعها مسببة أنك تقول: زيد يؤمن بالله فإذا مسه ضر التجأ إليه، فهذا تسبيب ظاهر، ثم تقول: زيد كافر بالله فإذا مسه ضر التجأ إليه، فتجيء بالفاء مجيئك بها ثمة كأن الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه مقيم كفره مقام الإيمان في جعله سبباً في الالتجاء {قَدْ قَالَهَا} هذه المقالة وهي قوله {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} {الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي قارون وقومه حيث قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى} [القصص: 78] وقومه راضون بها، فكأنهم قالوها، ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من متاع الدنيا وما يجمعون منها.


{فأصابهم سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} أي جزاء سيئات كسبهم، أو سمى جزاء السيئة سيئة للازدواج كقوله: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40]. {والذين ظَلَمُواْ} كفروا {مِنْ هَؤُلآءِ} أي من مشركي قومك {سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} أي سيصيبهم مثل ما أصاب أولئك، فقتل صناديدهم ببدر وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين من عذاب الله، ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين فقيل لهم {أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} ويضيق. وقيل: يجعله على قدر القوت {إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بأنه لا قابض ولا باسط إلا الله عز وجل.
{قُلْ ياعبادى الذين} وبسكون الياء: بصري وحمزة وعلي {أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلو فيها {لاَ تَقْنَطُواْ} لا تيأسوا، وبكسر النون: علي وبصري {مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} بالعفو عنها إلا الشرك، وفي قراءة النبي عليه السلام يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي، ونظير نفي المبالاة نفي الخوف في قوله {وَلاَ يَخَافُ عقباها} [الشمس: 16]. قيل: نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية» {إِنَّهُ هُوَ الغفور} بستر عظائم الذنوب {الرحيم} بكشف فظائع الكروب {وَأَنِيبُواْ إلى رَبِّكُمْ} وتوبوا إليه {وَأَسْلِمُواْ لَهُ} وأخلصوا له العمل {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب {واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} مثل قوله: {الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وقوله {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي يفجؤكم وأنتم غافلون كأنكم لا تخشون شيئاً لفرط غفلتكم.
{أَن تَقُولَ} لئلا تقول: {نَفْسٌ} إنما نكرت لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر، ويجوز أن يراد نفس متميزة من الأنفس إما بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم، ويجوز أن يراد التكثير {ياحسرتى} الألف بدل من ياء المتكلم، وقرئ: {يا حسرتي} على الأصل و{يا حسرتاي} على الجمع بين العوض والمعوض منه {على مَا فَرَّطَتُ} قصرت و{ما} مصدرية مثلها في {بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 25] {فِى جَنبِ الله} في أمر الله أو في طاعة الله أو في ذاته، وفي حرف عبد الله في ذكر الله والجنب الجانب يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته، وفلان لين الجانب والجنب، ثم قالوا: فرط في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه، وهذا من باب الكناية لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه، ومنه الحديث:
«من الشرك الخفي أن يصلي الرجل لمكان الرجل» أي لأجله، وقال الزجاج: معناه فرط في طريق الله وهو توحيده والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} المستهزئين. قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها. ومحل {وَإِن كُنتُ} النصب على الحال كأنه قال: فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال سخريتي {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى} أي أعطاني الهداية {لَكُنتُ مِنَ المتقين} من الذين يتقون الشرك، قال الشيخ الإمام أبو منصور رحمه الله تعالى: هذا الكافر أعرف بهداية الله من المعتزلة، وكذا أولئك الكفرة الذين قالوا لأتباعهم: {لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ} [إبراهيم: 21] يقولون: لو وفقنا الله للهداية وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه، ولكن علم منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا، والمعتزلة يقولون: بل هداهم وأعطاهم التوفيق لكنهم لم يهتدوا. والحاصل أن عند الله لطفاً من أعطى ذلك اهتدى، وهو التوفيق والعصمة ومن لم يعطه ضل وغوى، وكان استحبابه العذاب وتضييعه الحق بعدما مكن من تحصيله لذلك {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً} رجعة إلى الدنيا {فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} من الموحدين {بلى قَدْ جَآءَتْكَ ءاياتى فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين} {بلى} رد من الله عليه كأنه يقول: بلى قد جاءتك آياتي وبينت لك الهداية من الغواية وسبيل الحق من الباطل ومكنتك من اختيار الهداية على الغواية واختيار الحق على الباطل، ولكن تركت ذلك وضيعته واستكبرت عن قبوله، وآثرت الضلالة على الهدى، واشتغلت بضد ما أمرت به فإنما جاء التضييع من قبلك فلا عذر لك، و{بلى} جواب لنفي تقديري لأن المعنى: لو أن الله هداني ما هديت وإنما لم يقرن الجواب به، لأنه لا بد من حكاية أقوال النفس على ترتيبها ثم الجواب من بينها عما اقتضى الجواب.

1 | 2 | 3